الجرائم المخلة بواجبات الوظيفة إساءة استعمال السلطة و الاخلال بواجبات الوظيفة

الجرائم المخلة بواجبات الوظيفة الرشوة وصرف النفوذ والتعدي على الحرية و الاختلاس والسلطة إساءة استعمال السلطة و استثمار الوظيفة والإخلال بواجبات الوظيفة
شارك هذا:


سادساً- إساءة استعمال السلطة

إن الفصل المخصص في قانون العقوبات للجرائم الواقعة على واجبات الوظيفة هو واسع جداً ويحتوي على العديد من الأفعال الجرمية. وإن ما سيتم تناوله في هذا البحث يفتقر إلى الترابط مع ما سبقها من الجرائم؛ لعدم إمكانية تحقق هذا الموضوع بسبب اختلاف الأفعال وتباعدها عن بعضها.
وتماشياً مع نصوص مواد قانون العقوبات ولضرورة البحث وتسهيله سيتم تقسيمه إلى قسمين رئيسيين يتناولان: موضوع إساءة استعمال السلطة، وموضوع الازدراء بالأوضاع القومية وفق المادتين (361 و362) من القانون السوري.
1- إساءة استعمال السلطة:
إن كثيراً من الناس يخلط بين مصطلحي إساءة استعمال السلطة؛ وتجاوز حد السلطة مع أن هذه الأخيرة هي الأصل وتتسع لتضم موضوع إساءة استعمال السلطة التي هي أحد فروعها.
أ- صفة الفاعل: حسبما جاء في أحكام المادة (361) من قانون العقوبات يجب أن يرتكب جرم إساءة استعمال السلطة من قبل موظف أو مستخدم أو أي شخص مكلف بخدمة عامة على اختلاف درجاتهم، وفق ما جاء في تعريف الموظف في القانون الأساسي للعاملين في الدولة بأنه كل شخص يستخدم بصفة نظامية ليقوم بواجبات وظيفة ما ومسؤولياتها مقابل أجر محدد، ويتمتع لقاء ذلك بالحقوق والامتيازات المرتبطة بها.
ب- العنصر المادي: إن جرم إساءة استعمال السلطة يمكن أن يقع بعدة طرق أو أشكال ويمكن حصرهابالأساليب الآتية:
(1) إعاقة تطبيق القوانين أو تأخير تطبيقها.
(2) إعاقة تطبيق الأنظمة أو تأخير تطبيقها.
(3) إعاقة جباية الرسوم أو الضرائب.
(4) إعاقة تنفيذ قرار قضائي أو مذكرة قضائية.
(5) إعاقة تنفيذ أي أمر صادر عن السلطة ذات الصلاحية.
وقد ورد العديد من الأفعال المجرمة بصفتها إساءة لاستعمال السلطة، فقد عدت محكمة النقض استغلال نفوذ الوظيفة باستخدام جنود في سبيل مأرب شخصي فيه إساءة لاستعمال السلطة، فجاء أحد قراراتها: «إن المحكوم عليه استغل مساعدة الجنديين (ع) و(أ) اللذين هما تحت إمرته في أخذ زوجته قسراً من دار أهلها فإن استغلال نفــــــــــــــــوذ وظيفته باستخدام جنــــــــــــــــود تحت سلطته في سبيل مأربه الشخصي يشكل جــــــــــــــــرم إساءة استعمال الوظيفة» (نقض سوري، جنحة 1480، قرار1713، تاريـــــــــــــــــــــخ 16/9/1953).
وعدّت أيضاً إقدام محاسب النادي التابع للجيش على إطعام عدد من الأشخاص دون ثمن يشكل جرم إساءة استعمال الوظيفة وفق ما يلي: «إن ما نسب إلى الرقيب الأول حسبما ورد في قرار القاضي الفرد وقاضي التحقيق العسكريين هو عبارة عن إقدامه على إطعام عدد من النقباء والأفراد وأحد المدنيين في نادي الضباط في قطنا وعلى إرسال الطعام إليهم دون أن يتقاضى ثمنه منهم مع أنه محاسب النادي المذكور وهو بحكم الوظيفة مكلف بالمحافظة على أموال النادي فإن هذا العمل لا يخرج عن إساءة استعمال الوظيفة» (جناية 962، قرار 956 تاريخ 17/12/1955).
ج- القصد الجرمي:  تعد الجريمة الواردة في المادة (361) من قانون العقوبات من الجرائم المقصودة التي تطبق على الموظف المسيء لاستعمال وظيفته عن طريق إعاقة تطبيق القوانين والأنظمة وجباية الرسوم أو الضرائب أو تنفيذ قرار قضائي أو مذكرة قضائية أو أي أمر صادر عن السلطة ذات الصلاحية أو تأخير تطبيقها؛ مع العلم أن المشرع السوري قد فرض عقوبة الحبس من ثلاثة أشهر إلى سنتين بحق ذلك الموظف، أما إذا لم يكن الشخص الذي استعمل سلطته أو نفوذه موظفاً عاماً فلا تتعدى هذه العقوبة الحبس سنة وبالتالي أضفى عليها القانون الوصف الجنحوي.
2- الازدراء بالأوضاع القومية:
مما لا شك فيه أن الواجب المفروض على الموظف العام الذي يعمل في خدمة الدولة أن يكون وفياً لها متمتعاً بالنزعة الوطنية أكثر من سواه، فيعطي المثل على ذلك بتصرفاته بالنسبة إلى السلطات العامة، وقد جرَّم قانون العقوبات السوري الموظف الذي يحرض على الازدراء بالأوضاع القومية وبشرائع الدولة في المادة (362).
أ- صفة الفاعل: فاعل هذه الجريمة هو الموظف نفسه المرتكب جريمة إساءة استعمال السلطة، وقد سبق أن ذكر ذلك آنفاً، مع ضرورة إضافة الأفراد العاملين بالمؤسسات العامة ذات الصفة التجارية والصناعية والشركات التي تسهم الدولة في رأس مالها بصفة مباشرة أو غير مباشرة، لأنهم يعدون موظفين تابعين للدولة. أما الرأي الفقهي في القانون الإداري فقد اشترط ضرورة توافر عناصر أساسية في مفهوم الموظف العام؛ وهي وجوب القيام بالعمل المكلف به بصورة دائمة داخل مرفق عام من مرافق الدولة ومعين من السلطة ذات الصلاحية، في حين عدت المحكمة الإدارية العليا في سورية أن الموظف العام هو كل شخص معين من طرف جهة قانونية مختصة وفي عمل دائم لخدمة مرفق عام تديره الدولة أو أحد أشخاص القانون العام .
ب- العنصر المادي: عددت المادة (362) من قانون العقوبات الأفعال المجرمة وهي الحض على الازدراء بالأوضاع القومية؛ أو بشرائع الدولة من قرارات إدارية ومراسيم تشريعية وتنظيمية، أو قوانين نافذة من إدارية وجزائية ومدنية وأصولية، وكل ما من شأنه تنظيم أمور الدولة وتسييرها؛ والإشادة بذكر أعمال تنافي هذه القوانين أو القرارات أو الأوضاع.
ج- القصد الجرمي: تعد هذه الجريمة من الجرائم المقصودة المطلوب توافر النية الجرمية فيها في معرض الحض على الازدراء بالأوضاع القومية أو بقوانين الدولة أو الإشادة بذكر أعمال تنافي هذه القوانين، أما لو كانت تلك الإشادة أو الانتقاد بالطريقة البناءة لرفع المستوى الاجتماعي والقومي وتصحيح الأفكار والمبادئ وفق أسس علمية ثابتة، أو كانت نتيجة حس قومي عالٍ وشعور وطني بالمصلحة العليا للجميع منعاً من تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؛ فلا مجال هنا لإعمال نص هذه المادة.
ه- العقوبة: أما بالنسبة إلى العقوبة التي قررها الشارع على الموظف مُرتكِب هذا الجرم فهي الحبس من شهر إلى سنة والغرامة من خمس وعشرين إلى مئة ليرة سورية، وبالتالي فالمشرع أسبغ على هذه الجريمة الصفةالجنحوية.

سابعاً- الإخلال بواجبات الوظيفة:

أورد المشرع جريمة الإخلال بواجبات الوظيفة في المواد (363) وحتى (368) من قانون العقوبات.

1- جريمة إهمال الموظف:

نصت على هذه الجريمة المادة (363) من قانون العقوبات؛ إذ جاء فيها ما يلي: «1- إذا ارتكب الموظف دون سبب مشروع إهمالاً في القيام بوظيفته، أو لم ينفذ الأوامر القانونية الصادرة إليه عن رئيسه عوقب بالغرامة من خمس وعشرين ليرة إلى مائة ليرة.
2- إذا نجم عن هذا الفعل ضرر بمصالح الدولة عوقب المجرم بالحبس من شهر إلى سنة». يستفاد من هذا النص أن المشرع اشترط أن تتم الجريمة من قبل موظف عام بالشروط والتعريفات ذاتها التي ذكرها فيما سبق ولا داعي إلى تكرارها، وهي من الجرائم المقصودة المطلوب فيها العلم.
إذا اقتصر فعل الموظف على مجرد الإهمال في القيام بوظيفته من دون سبب مشروع، أو لم ينفذ الأوامر القانونية الصادرة إليه عن رئيسه؛ فلا يعاقب إلا بالغرامة من خمس وعشرين ليرة إلى المئة ليرة. أما إذا نجم عن فعله ضرر بمصالح الدولة شددّت عقوبته إلى الحبس من شهر إلى سنة؛ فيجب تطبيق هذه العقوبة المشددة إن نشأ ضرر من الإهمال نفسه، وكان هناك رابطة منطقية بين هذا الإهمال وبين النتيجة المحتملة بحصول الضرر مباشرة؛ بحيث يكون الإهمال هو السبب المتصل بتلك النتيجة اتصال السبب بالمسبب بحيث لا يتصوّر وقوع الضرر بغير وجـــــــــــــــــود هذا الإهمال. كما أن هذه الرابطة تكــــــــــــون عنصراً مستقلاً يجب إثباته والتحدث عنه بوضوح، فإذا تغاضى القـــــــــــــــــرار المطعون فيه عــــــــــــــــن بيان هذه الجهة أصبح مشوباً بالغموض وقاصراً في بيانه وأسبابه وجديـــــــــــــــراً بالنقض (جنحة 947، قرار 1638 تاريـــــــــــــــــــخ 31/10/1962).
أما المادة (364) من قانون العقوبات فقد أوردت عقوبة الحبس من شهر إلى سنة على كل ضابط أو فرد من أفراد القوة العامة وكل قائد موقع أو فصيلة امتنع عن تلبية طلب قانوني صادر عن السلطة القضائية أو السلطة الإدارية.

2- جريمة ترك العمل:

أكد الدستور السوري مبدأ حرية العمل، وعدّه حقاً للوطن وواجباً عليه، والإدارة العامة تسعى إلى المحافظة على حسن سير المرافق العامة من خلال تنظيم العلاقة بينها وبين الموظف، ولكن ليس لها أن تنتقص من حقوقه أو تنال من حرية العمل، أو تقف في وجه الفرد لمنعه من ترك العمل وفق مبدأ قدسية الحرية الذي كَفِلَه الدستور.
وقد أولى المشرع السوري جريمة ترك العمل عناية خاصة في المادة (364/مكرر) من قانون العقوبات التي ليس في حقيقتها سوى إخلال العامل لموجبات عقد العمل المنوه به في أحكام المرسومين التشريعيين رقم (49) لعام 1962 و(127) لعام 1970.
فإذا كان العامل متعسفاً في استعمال حقه في إنهاء عقد عمل وترتب على ذلك ضرر بحق أي جهة؛ حينئذ يحق لتلك الجهة طلب التعويض لجبر ذلك الضرر مهما كان فادحاً.
وأيضاً إضافة إلى ما ورد في قانون العقوبات العام فقد تناول قانون العقوبات الاقتصادي الصادر بتاريخ 16/5/1966 بالمرسوم التشريعي (37) في نصوص مواده أمر جميع العاملين في الدولة الذين ينقطعون عن وظائفهم من دون إذن من إدارتهم، ويغادرون البلاد، حيث فرض عليهم عقوبة خاصة تعدّ تعديلاً طرأ على المادة (364 مكرر) في قانون العقوبات وهي الحبس من سنة إلى ثلاث سنوات وفق أحكام المادة 22 فقرة (أ) من قانون العقوبات الاقتصادي والفقرة (ج) أيضاً، ونتيجة لتبعثر نصوص جريمة ترك الموظف لعمله ارتأى المشرع ضرورة تجميع نصوص المواد وتنظيمها مرة أخرى فقام بإصدار المرسوم التشريعي رقم (46) لعام 1974 لعدة أسباب موجبة دعت إلى ذلك وهي: «ثَبَتَ بالتطبيق ضعف العقوبات التي تضمنتها النصوص النافذة لردع العاملين في الدولة وكافة أجهزتها في جهات القطاع العام وغيرها، عن ترك عملهم قبل قبول استقالتهم وكذلك الذين يعتبرون بحكم المستقيل لانقطاعهم عن العمل، الأمر الذي أدى إلى استهتار البعض منهم بهذه العقوبة البسيطة؛ والإمعان في ارتكاب جرم ترك العمل بصورة غير قانونية، ملحقين بالجهات التي كانوا يعملون فيها نتيجة ذلك أفدح الأضرار».
وقد أوضح بلاغ وزارة العدل في سورية تاريخ 16/12/1974 ذو الرقم /14045/ الهدف من وراء هذا التشديد جاء فيه ما يلي: «إن المرسوم التشريعي رقم (46) المذكور هدف إلى حماية استمرار العمل في دوائر الدولة ومؤسساتها والقطاع العام والمشترك وحرص على استقرار نشاط الدولة في كافة دوائرها ومرافقها والحفاظ على الثروة القومية بالحيلولة دون عرقلة الإنتاج في القطاع العام والمشترك».
وبالتدقيق في نصوص المواد السابقة والنافذة حالياً يتبين أن المشرع أقر عدة نقاط تُلخص فيما يلي:
1) أبقى الجرم جنحوي الوصف مع التشديد في العقوبة إلى درجة أنه بالغ فيها حتى خرجت عن حدود المعقول ولا تتناسب البتة مع الآثار التي قد تنتج من إخلال العامل بعلاقته مع منشأة العمل.
2) شملت العقوبة كل من عمل في الدولة أو المؤسسات أو البلديات أو أي جهة من جهات القطاع العام أو المشترك، وأيضاً كل من نكل عن العمل في إحدى الجهات المذكورة آنفاً؛ إذا كان ملتزماً بالعمل فيها نتيجة إيفاد ببعثة أو منحة أو إجازة دراسية مع وجوب مصادرة أمواله المنقولة وغير المنقولة.
3)- قضت المواد القانونية بحرمانه من جميع حقوقه لدى الدولة من تقاعد أو تعويض، أو… كما قضت بإلزامه بتعويض الأضرار الناجمة عن تركه لعمله أو حتى الانقطاع عنه.
4) حرمت فاعل الجريمة من الظروف المخففة ووقف التنفيذ ووقف الحكم النافذ، وبالتالي يفرق المشرع بين شخص وآخر وفقاً للظروف المحيطة به، لما لتلك الظروف من أثر في تحديد العقوبة.
5) سمح المشرع لمن حركت بحقه الدعوى العامة أن يضع نفسه تحت تصرف الدولة خلال ثلاثة أشهر من تاريخ تحريك الادعاء، وبذلك يمكن للدولة أن تتغاضى عنه وتعفيه من العقوبة، ويمكن استعمال هذا الأمر مرة واحدة فقط.
وهذا ما سار عليه الاجتهاد القضائي السوري، فقد ورد في ذلك: «أن الملاحقة في جريمة ترك العمل لا تتوقف على شكوى أو ادعاء شخصي من الجهة التي يعمل الفاعل لديها، وإنما تمارسها النيابة العامة بمقتضى سلطتها القانونية، وإن موافقة الإدارة العامة وطلبها إسقاط هذه الدعوى أو التنازل عنها أو كف الملاحقة لا عبرة له ولا يؤثر في سيرها. ولما كانت المادة (364) عقوبات المعدلة بالمرسوم التشريعي رقم (46) لعام 1974 في شأن ترك العمل والانقطاع عنه أو مخالفة التزام الخدمة؛ قضت بمعاقبة من يخالف أحكامه بالعقوبات المنصوص عليها فيه، كما قضت الفقرة /هـ/ من المادة المذكورة بأن يعفى من العقوبة لمرة واحدة من عاد للخدمة أو وضع نفسه تحت تصرف الدولة خلال ثلاثة أشهر من تحريك الدعوى العامة بحقه، مما مفاده أن هذا التاريخ هو المعتبر كمبدأ لسريان مدة الإعفاء، ولا عبرة بعد ذلك لموافقة الإدارة على عودته أو عدم موافقتها إذا تم ذلك بعد المدة المذكورة، ذلك أن الحاجة التي دعت إلى سن هذه المادة المعدلة هي حماية استمرار العمل في دوائر الدولة ومؤسساتها وفي القطاع العام والمشترك، والحرص على نشاط الدولة في كافة دوائرها ومرفقاتها، والحفاظ على الثروة القومية بالحيلولة دون عرقلة العمل والإنتاج في هذه المؤسسات. لما كان ذلك، وكانت الملاحقة في جريمة ترك العمل لا تتوقف على الشكوى أو الادعاء الشخصي من جانب الجهة التي يعمل لديها العامل؛ وإنما تمارسها النيابة العامة بمقتضى سلطتها القانونية؛ ومتى ما أقامتها؛ فإنه لا يؤثر في سيرها طلب الإسقاط أو التنازل أو كف الملاحقة إذا تم ذلك بعد المدة القانونية للإعفاء.
ولما كانت الدعوى العامة قد حركت بحق الطاعن بتاريخ 4/7/1976 ولم يتقدم بطلب وضع نفسه تحت تصرف الدولة بتاريخ 7/12/1976 أي بعد المدة القانونية للإعفاء المحددة بثلاثة أشهر من تاريخ تحريك الدعوى العامة؛ لذلك فإنه لا يستفيد منها، كما لا عبرة لطلب قُدِّمَ على أساس التحاق الطاعن بعمله بعد مضي المدة القانونية. لما كان ذلك وكان الطلب الذي تلتزم محكمة الموضوع بإجابته أو الرد عليه هو الطلب الجازم الذي يصر عليه مقدمه ولا ينفك من التمسك به والإصرار عليه في طلباته الختامية وكان الطاعن لم يتمسك أمام محكمة الموضوع بطلب إثبات سبب تغيبه عن العمل ومسوغات هذا التغيب كإصابته بمرض نفسي أو عصبي، الأمر الذي دعا المحكمة إلى اعتبار هذا الطلب مرسلاً وغير مؤيد بدليل، واقعاً في محله، ولما كان الحكم المطعون فيه قد جاء صحيحاً في القانون وملتزماً نهج المبادئ القانونية المشار إليها، وكانت هذه الجريمة مستثناة من قانون العفو رقم (26) لعام 1987؛ فإنه يتعين تصديقه» (نقض ســـــــــــوري، جنحة 461 قرار 2021 تاريـــــــــــــــــــــــــــــــخ 28/5/1978) وتسهيلاً للبحث وزيادة في دقة تنظيمه سيتم تقسيمه بطريقة منهجية إلى عدة عناصر على النحو التالي:
أ- صفة الفاعل: عدّت المادة (364 مكرر) من قانون العقوبات أن مرتكب هذه الجريمة يجب أن يكون موظفاً لدى إحدى إدارات الدولة من وزارات أو مؤسسات أو هيئات عامة أو بلديات أو مؤسسات بلدية أو أي جهة من جهات القطاع العام أو المشترك كما أنه يمكن أن يكون هذا الفاعل هو أحد الموفدين ببعثة أو منحة أو إجازة دراسية شرط نكوله عن أداء التزامه بالخدمة في إحدى الجهات المبينة آنفاً. وقد عدّ الاجتهاد القضائي هذا الأمر ينطبق حتى على الموفدين ببعثة أو منحة داخلية حيث ورد: «الفقرة (ب) من المادة (364 مكرر) المعدلة بالمرسوم التشريعي رقم (46) لعام 1974 وردت شاملة مطلقة وتوجب عقاب كل من نكل عن تنفيذ التزامه بالخدمة في الجهات المبينة في الفقرة (أ) منها، ولم تشترط أن تقتصر أحكامها على الموفدين ببعثة دراسية للخارج ولم تفرق في المعادلة بين الإيفاد الخارجي والإيفاد الداخلي، وحيث إن البحث في الطعن ينحصر في ناحية الحقوق الشخصية لانبرام الدعوى من الوجهة الجزائية، وحيث إن اجتهاد الهيئة العامة لمحكمة النقض رقم أساس 21/1981 قرار 6/1982 الصادر بتاريخ 10/3/1982 قد أيد هذا الرأي وكرسه وقرر العدول عن الاجتهاد السابق واعتبر الالتزام نتيجة الدراسة أو التدريب في المعاهد والجامعات السورية بمنزلة الإيفاد المنصوص عليه في المادة (364 مكرر) من قانون العقوبات» (نقض سوري، جنحة أساس 4633 لعام 1980 قرار 629 لعام 1982 تاريـــــــــــــــــــــخ 12/4/1982).
ب- العنصر المادي: يتجسد العنصر المادي في جريمة ترك الموظف لعمله بالطريقة التي يسلكها العامل في طريقة إنهاء عقد العمل، بحيث لا يجوز أن ينهيه بمحض إرادته عندما يرغب في ذلك مخافة أن يسبب ذلك شللاً في العمل وعرقلة له، وإنما الواجب المفروض على العامل أن يراجع الجهة المختصة بطلب إنهاء عقد العمل فتتم دراسة طلبه وفق مقتضيات المصلحة العامة لسير العمل بالطريقة المثلى، وبعد ذلك يتم البت بطلبه سلباً أو إيجاباً بحسب الضرورات التي من الممكن أن تحول دون قبول طلبه في الحال، أما بالنسبة إلى هذه الضرورات فيعود أمر تقديرها إلى الإدارة المرتبط بها العامل، لأنه لو ارتأت الإدارة رفض طلبه، ولكنه مع ذلك قام بترك العمل قبل صدور القرار القاضي بقبول استقالته؛ عُدَّ بحكم المستقيل وطُبِّـقت بحقه العقوبات المنصوص عليها في المادة (364 مكرر) من قانون العقوبات المعدلة بالرسوم التشريعي رقم (46)، ولكن ما لبثت محكمة النقض من أن تحاول الحد من الشدة الواردة في نصوص القانون؛ لذا ارتأت في بادئ الأمر أنه لا يمكن إقامة دعوى الحق العام بحق من ترك العمل من أحد العاملين في الدولة قبل أن يتم تبليغه القرار القاضي باعتباره بحكم المستقيل للسماح له بممارسة طرق الطعن المقررة قانوناً إذا رغب في ذلك (نقض سوري، جنحة أساس 602 قرار 2407 تاريخ 22/8/1978).
بيد أن الهيئة العامة عدلت عن هذا الرأي وقضت بعدم الحاجة إلى تبليغ القرار الإداري؛ لأن الجرم قد تمت أركانه قبل التبليغ، وعلى المحكمة الناظرة بالموضوع البحث عن الأسباب التي دعت العامل إلى ترك عمله قبل موافقة السلطة المختصة على طلب قبول استقالته فقد نص الاجتهاد الصادر عن الهيئة العامة لمحكمة النقض: «حيث إن الفعل المجرم في المرسوم التشريعي رقم (46) يعود للقضاء الجزائي التحقيق من توفر عناصره ويستطيع هذا القضاء التحقق من وجود أعذار مشروعة للغياب من مرض أو عجز أو توقيف أو حجز حرية فإذا قُدِّم العذر الجدي إلى الجهة التي يعمل لديها الفاعل؛ حتى بعد انقضاء المدة المقررة لاعتباره بحكم المستقيل وانتهت إلى ثبوت صحته يتعين عليها قبوله، وإذا دفع أي شخص بهذا العذر أمام محكمة الموضوع تعين عليها النظر فيه، حتى إذا صح لديها قيامه فلا وجه لمساءلة الفاعل، لأن فعله يكون قد توافر له المبرر الذي يجعله خارج نطاق العقاب؛ والمحكمة الجزائية ليست مرتبطة برأي الإدارة والتحقيقات التي تجريها ولا بالقرار الصادر باعتبار العامل في الدولة بحكم المستقيل.
وحيث إنه من جهة أخرى، فإن تبليغ القرار الإداري ليس هو الذي يكسبه وجوده القانوني، أو يضفي عليه قوته؛ إذ إن أثر التبليغ ينحصر في نقل القرار إلى علم الأفراد، فالقرار الإداري هو إفصاح، أما عملية النشر أو التبليغ فهي إجراء لاحق لا يعدو أن يكون تسجيلاً لما تم فلا يرتد أثرها إلى القرار ذاته ولا يمس صحته، وهذا ما استقر عليه الفقه والقضاء.
وحيث إن القرارات الإدارية من حيث المبدأ هي نافذة بذاتها حتى يصدر قرار قضائي بوقف تنفيذها، وبالتالي فإن مجرد الطعن فيها أمام القضاء لا يوقف تنفيذها حكماً» (نقض سوري أساس 50 قرار 20 تاريخ 21/5/1979).
ونتيجة لذلك قررت محكمة النقض العدول عن الاجتهادات السابقة المتضمنة عدم جواز تحريك الدعوى العامة بحق من يترك العمل من أحد العاملين في الدولة قبل أن يبلغ إليه الصك القاضي باعتباره بحكم المستقيل (المحامون 1979، العددان 2 و 3 ص 52 قسم الاجتهاد) ولا جَرَمَ أن هذا الاتجاه هو السليم؛ لأن الفعل المرتكب قد تم بمجرد انقضاء خمسة عشر يوماً على ترك العمل دون مسوغ قانوني.
ج- عقوبة جريمة ترك العمل: إن العقوبة المفروضة على هذا الجرم أضيفت إلى المادة (364 مكرر) من قانون العقوبات السوري ليتم إعمالها على كل من يخضع للقانون الأساسي للعاملين في الدولة من موظفي القطاع العام والمشترك، وهي الحبس من ثلاث سنوات إلى خمس، وإضافة إلى هذه العقوبة المانعة للحرية فرض المشرع عقوبة مالية تتمثل بالغرامة بمقدار لا يقل عن مجموع الرواتب الشهرية مع التعويضات لمدة سنة كاملة، وزادها حرمان العامل من حقوقه لدى الدولة؛ مع إلزامه بالتعويض عن الأضرار الناجمة عن ترك العمل والانقطاع عنه؛ مع إلغاء حق المحكمة في استخدام الأسباب المخففة.
الملاحظ من خلال ما تقدم أن المشرع أسبغ على هذه العقوبة الصفة الزجرية إلى درجة أنها حَدَّت من حرية العمل المصانة من قبل الدستور، وخالفت جميع القوانين الوضعية ابتداءً بقانون العمل وأحكام عقد العمل في القانون المدني وانتهاءً باتفاقيات منظمات العمل الدولية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، مع أنه لا يجوز للدولة في معرض وضعها للقوانين أن تناقض توصيات المؤتمرات الدولية؛ لا لأن هذه القوانين أعلى مرتبة وإنما لأنها تعيش في مجتمع دولي يترتب على الجميع احترام مبادئه.
وأيضاً بالعودة إلى اتفاقية العمل الدولية رقم /104/ المصدق عليها من قبل الجمهورية العربية السورية بالقانون رقم /343/ لعام 1957، والتي ألغت العقوبات الجزائية المفروضة على العامل نتيجة إخلاله بعقد العمل، وقضت بضرورة إلغاء العقوبات وتغييرها بتدابير مناسبة في مدة لا تتجاوز السنة من تاريخ التصديق على هذه الاتفاقية.
واستكمالاً للعقوبات المشروحة آنفاً فقد قضت الفقرة /ب/ من المادة الأولى من المرسوم /46/ بضرورة مصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة العائدة إلى من ينكل عن أداء التزامه بالخدمة في الجهات العامة نتيجة للإيفاد ببعثة أو منحة أو غير ذلك؛ مع العلم أن المادة /17/ من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حظرت المصادرة العامة الواقعة على جميع الأموال وكما هو معلوم فإن الجمهورية العربية السورية هي طرف في الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان وبالحقوق الاقتصادية والاجتماعية؛ فالأولى بها أن تكون مراعية لهذه الاتفاقيات عندما تسعى إلى إصدار القوانين والأنظمة الداخلية.
وهنا لا بد من ملاحظة ثلاث نقاط وذلك استكمالاً للبحث في هذا الموضوع:
(1) أعفى المشرع الموظف الذي يعدل عن استقالته بطلب يقدمه إلى الدائرة التي يعمل بها خلال ثلاثة أشهر من تاريخ تحريك الادعاء؛ بغض النظر عن نتيجة ذلك الطلب موافقة أو رفضاً، فقد أكد ذلك الاجتهاد الصادر عن محكمة النقض السورية: «حيث أن النيابة العامة لم تطعن بالحكم فقد أضحى مبرماً من الوجهة الجزائية وينحصر البحث بالحق الشخصي».
«وحيث إن الدعوى العامة قد حُرِّكت بحق المطعون ضده بتاريخ 16/3/1976 وقد تقدم المذكور بطلب العدول عن استقالته بتاريخ 28/4/1976 كما هو واضح من بيان المؤسسة العامة للبريد والمواصلات السلكية واللاسلكية رقم (1784)، الأمر الذي يؤكد أنه وضع نفسه تحت تصرف الدولة خلال مدة ثلاثة أشهر من تاريخ تحريك الدعوى العامة، وهذا مما يؤدي إلى إعفائه من العقوبة ولا عبرة بعد ذلك لموافقة الإدارة أو عدم موافقتها على عودته؛ سواء تم ذلك ضمن مدة الثلاثة أشهر أو بعدها، ذلك أن مناط الإعفاء هو عودة المخالف إلى عمله السابق؛ أو وضع نفسه تحت تصرف الدولة خلال مدة معينة ولا علاقة له بحق الإدارة في تقدير عودة المخالف إلى العمل أم لا. وحيث إنه متى انتفى الجرم فلا مجال بالتالي للمطالبة بالتعويضات الشخصية أمام القضاء الجزائي مما يجعل القرار المطعون فيه سليماً من حيث النتيجة ولا ترد عليه أسباب الطعن» (نقض سوري، جنحة أساس 1030 قرار 2438 تاريخ 28/8/1978).
(2) إذا قام العامل بترك العمل ولكن للالتحاق بعمل آخر لدى الدولة قبل الموافقة على قبول استقالته وصدور الصك اللازم، وذلك لأن الشخصية الواحدة للدولة تحتم اعتبار عودته إلى العمل في إحدى مؤسساتها استمراراً بالعمل لديها، وهذا ما سار عليه الاجتهاد القضائي فقد ورد: «حيث إن ترك عامل الدولة عمله للالتحاق بعمل آخر لديها والتحاقه بالعمل الجديد فعلاً قبل صدور الصك القاضي باعتباره بحكم المستقيل؛ لا يشكل جرماً، لأن الوحدة المفترضة في شخصية الدولة تحتم اعتبار عودته للعمل في إحدى مؤسساتها استمراراً في العمل لديها وتنفي عنه ترك العمل المقصود في المادة (364/ مكرر) عقوبات المعدلة بالمرسوم التشريعي رقم (46) لعام 1974 وهذا ما سار عليه اجتهاد هذه المحكمة وتأيد بقرارها الصادر 22/7/1978 رقم 1494/2342، وحيث إن الحكم المطعون فيه الذي سار على هذا النهج القانوني السديد، وقضى بعدم المسؤولية إنما يكون قد أصاب القانون ويتعين تصديقه» (نقض سوري، جنحة أساس 81  قرار 27 تاريخ 30/1/1989).
(3) النقطة الثالثة هي تلميح بسيط لما ورد في موضوع ترك العمل في نطاق قانون العقوبات الاقتصادي الصادر بتاريخ 16/5/1966 رقم (37)؛ حيث تناول أمر جميع العاملين في الدولة الذين ينقطعون عن وظائفهم من دون إذن من إداراتهم ويغادرون البلاد إلى خارجها، فأفرد بالنسبة إليهم عقوبة خاصة تعدّ تعديلاً للعقوبة التي جاءت بها المادة (364 مكرر) من قانون العقوبات، وذلك فيما يتعلق بهؤلاء فقط من حقوقهم لدى الدولة وفق أحكام المادة (22) منه.
3- ممارسة الموظف وظيفته خلافاً للقانون:
تعد من الجرائم المخلة بواجبات الوظيفة ما نصت عليه المادة (365) من قانون العقوبات السوري التي جرَّمت كل موظف أو من في حكمه عُزل أو كُفت يده أو نُدب إلى خدمة عامة بالانتخابات أو بالتعيين وانتهت خدمته، ولكنه مع ذلك مضى في ممارسة وظيفته خلافاً للقانون؛ بالحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات، مع ملاحظة أن المقصود بالموظف هنا هو كل شخص يعمل في إحدى إدارات الدولة ما عدا الأشخاص الذين عددتهم المادة (296) من قانون العقوبات وهم:
أ- من اغتصب سلطة سياسية أو مدنية أو قيادة عسكرية.
ب- من احتفظ خلافاً لأمر الحكومة بسلطة مدنية أو قيادة عسكرية.
ج- كل قائد عسكري أبقى جنده محتشداً بعد أن صدر الأمر بتسريحه أو بتفريقه.
مع العلم أنه قد صدرت بهذا الصدد مذكرة المدعي العام الاستئنافي في لبنان المؤرخة في تاريخ 7/11/1944، وقد أضحت لها قوة القانون، ومضمونها أن امتناع الموظف المعزول عن تسليم أوراقه وخاتمه لخلفه يُعدّ إساءة لاستعمال السلطة، والجدير بذكره أنه كان من الأفضل لو تم النص على هذه الجريمة في المادة (296) من قانون العقوبات السوري المطابقة لنص المادة (306) من قانون العقوبات اللبناني؛ وذلك لأن المشرع قد عطف المادة (365) على الأخيرة.
4- قيام الموظف بفعل ينافي واجبات وظيفته:
إضافة إلى ما تم بحثه في الجرائم المخلة بواجبات الوظيفة أورد المشرع في المادة (366) من قانون العقوبات عقاب الموظف الذي يقدم بقصد جلب المنفعة لنفسه أو لغيره أو حتى بقصد الإضرار بالغير؛ على فعل ينافي واجبات وظيفته، وبالتالي فإن صفة فاعل الجريمة يجب أن تتحدد بالموظف وفق مدلوله العام وتعريفة الوارد في قانون العقوبات. أما بالنسبة إلى العنصر المادي لهذه الجريمة فهو إقدام ذلك الموظف على فعل ينافي واجبات وظيفته، وما يحدد هذا التعبير هو التشريعات النافذة التي تحدد بدقة ماهية الأفعال المنافية لواجبات الوظيفة، وهذا في حقيقة الأمر ما نهجه الاجتهاد القضائي حيث جاء فيه: «لما كانت المادة (366) من قانون العقوبات المطبقة بحق المميز جاءت مطلقة دون أن تحدد ما قصده الشارع من قوله كل فعل ينافي واجبات المهنة، ولم يعين له عقاب خاص وكان ذلك الإطلاق يوجب الرجوع إلى القوانين والأنظمة المعمول بها، وقد اتضح من مراجعة نظام خدمة الدولة الصادر في 25/3/1930 رقم (1962) أن المادة (1221) منه نصت في فقرتيها الأخيرتين أن كل عسكري يتبين أنه ارتشى أو أخذ بخشيشاً تجري ملاحقته أمام المحكمة… إلخ، ومن جهة أخرى فمن المحظور على عسكريي الدرك بتاتاً أن يبيتوا عند الأهليين وأن يطلبوا منهم علفاً لخيلهم مجاناً وإلا عوقبوا عقاباً انضباطياً شديداً، ثم جاء نظام الخدمة الداخلية للدرك الصادر في 24/9/1934 برقم (2913) مؤيداً لما ذكر لاقتصار أحكام المادة (166) منه على إلغائها ما يخالف أحكامه من المرسوم (1962) وغيره، وليس في هذا النظام ذي الرقم (2913) ما يخالف النظام بل جاء وحظر على الدرك في نهاية المادة (103) منه ما هو أتفه من ذلك ومنع عليهم مطالبة الأهالي بجلب المياه إلى المخفر» (نقض سوري، جناية 168، قرار 239، تاريخ 26/3/1956).
أما العنصر الأساسي في هذه الجريمة وهو القصد الجرمي الذي يتجلى في قصد الانتفاع الحاصل للموظف نفسه أو لغيره أو في قصد الإضرار بالغير، ويعد القصد الجرمي في هذا النوع من الجرائم قصداً جرمياً خاصاً فضلاً عن القصد العام، ولا تتم هذه الجريمة إلا بوجوده؛ وفي حال انتفائه تنتفي معه العقوبة. وهنا لابد من ذكر أحد أهم الاجتهادات الصادرة عن محكمة النقض المتعلقة بهذا الموضوع حين عدت أن احتفاظ موظف المصرف ببعض الأموال التي يكلف بجبايتها لمصلحة المصرف لديه؛ من دون أن يوردها في دفتر يومية الصندوق يوماً فيوماً؛ منتظراً نهاية موسم الحج ليودعها جملة؛ يعدّ إخلالاً بواجبات الوظيفة، وقد نص الاجتهاد: «حيث أن أموال المصرف يجب أن تحفظ في صناديقه بعد توريدها في دفتر يومية الصندوق يوماً بيوم. وحيث إن احتفاظ المطعون ضده يوسف ببعض الأموال التي كلف بجبايتها لصالح المصرف لديه دون أن يوردها في دفتر يومية الصندوق يوماً فيوماً منتظراً نهاية موسم الحج ليودعها جملة يعتبر إخلالاً بواجبات الوظيفة تحكمه المادة (366) من قانون العقوبات، كما أن استيفاء المطعون ضده مبالغ من الحجاج تزيد عن استحقاق المصرف وبغير وجه حق باسم ما يمكن أن يظهر من نقص في الصندوق بنهاية الجباية؛ يعتبر من قبيل الحصول على منفعة شخصية من معاملات الإدارة التي ينتمون إليها، تحكمه المادة (354) من قانون العقوبات» (نقض سوري، جنحة أساس 2624، قرار 3080 تاريخ 16/12/1978).
وقد قررت الهيئة العامة لمحكمة النقض السورية أن قصد الانتفاع أو الإضرار يشكل عنصراً أساسياً في الجريمة المنصوص عليها في المادة (366) من قانون العقوبات (نقض سوري، هيئة عامة 64 قرار 13 تاريخ 30/6/1969).
وقد أحسن قانون العقوبات السوري عندما نص في المادة (367) أنه: «فيما خلا الحالات التي يعرض فيها القانون عقوبات خاصة عن الجرائم التي يرتكبها الموظفون؛ فإن الذين يقدمون منهم بصفتهم المذكورة أو بإساءتهم استعمال السلطة أو النفوذ المستمدين من وظائفهم على ارتكاب أي جريمة كانت، محرضين كانوا أو مشتركين أو متدخلين يستوجبون العقوبات المشددة التي تفرضها المادة 247». ويتبين من استقراء هذه المادة أنه يشترط لتوافر هذه الحالات أن يكون هنالك نص خاص يلحظ مساهمة الموظف في الفعل الجرمي، وأن يكون الموظف قد أسهم في مقارفة الجريمة - وهذه الجريمة من نوع الجناية أو الجنحة - من دون المخالفة، كما يشترط أن يكون الموظف مكلفاً بمراقبة الفعل الجرمي الذي أتاه مع الغير  أو ملاحقته أو معاقبته. وأن ترتكب الجريمة في الحيز المكاني الداخل ضمن اختصاص الموظف.
وقد شدد المشرع العقوبات المفروضة على الموظفين المذكورين آنفاً وفق الشروط المنوه بها وفق أحكامالمادة (247) التي بحثت في الأسباب المشددة القانونية التي لم يُعّين لها مفعول مُقدَّر في تحديد العقوبة، وقد جاء في اجتهاد محكمة النقض السورية ما يؤكد هذه القاعدة «التشديد لأسباب تقديرية لا يجوز أن يتجاوز فيه الحد الأعلى المبين في المادة القانونية، أما التشديد لأسباب قانونية فإنه يتم وفق المادة (247) من قانون العقوبات» (نقض سوري، جناية 179، قرار204 تاريخ 25/2/1953).
وقد أوجبت هذه المادة في حال توافر السبب المشدد إبدال عقوبة الإعدام من الأشغال الشاقة المؤبدة، وتزاد كل عقوبة مؤقتة من الثلث إلى النصف وتضاعف الغرامة، فقد جاء في اجتهاد آخر لمحكمة النقض السورية:«إن المادة (247) عقوبات بحثت عن الأسباب المشددة القانونية التي لم يُبيَّن لها مفعول مُقدَّر في تحديــــــــــــد العقوبة، ومؤدى ذلك أن هذه المادة تنطبق على الحالات التي نــــــــــــــص عليها القانـــــــــــــــون على تشديد العقوبة وفقاً لأحكامها» (نقض سوري، جنحة 2306، قـــــــــــــــرار 2315 تاريـــــــــــــــــــــــــخ 2/10/1968).
والمادة (367) عقوبات عام أوجبت فرض عقوبة مشددة وفق أحكام المادة 247 منه وفق ما ذكر أعلاه.
وفي الختام يتبين أن المشرع أعطى للقاضي سلطة تقديرية بالحكم بالمنع من الحقوق المدنية عند قضائه في إحدى الجنح المنصوص عليها في الفصل الأول من الباب الثالث من قانون العقوبات موضوع البحث، وهي من العقوبات الفرعية في قضايا الجنحة التي أجازها القانون في المادة (66) من قانون العقوبات حيث نص على أنه: «يمكن في الحالات الخاصة التي عينها القانون أن يحكم مع كل عقوبة جنحية بالمنع من ممارسة حق أو أكثر من الحقوق المذكورة في المادة (65) عقوبات عام، والتي حددتها بـ:
(1) الحق في تولي الوظائف والخدمات العامة.
(2) الحق في تولي الوظائف والخدمات في إدارة شؤون الطائفة المدنية أو إدارة النقابة التي ينتمي إليها.
(3) الحق في أن يكون ناخباً أو منتخباً في جميع مجالس الدولة.
(4) الحق في أن يكون ناخباً أو منتخباً في جميع منظمات الطوائف والنقابات.
(5) الحق في حمل أوسمة سورية أو أجنبية».
وهذا الحرمان مؤقت بالمدة التي يستغرقها تنفيذ العقوبة، ولكن الفقرة الثانية من المادة (66) من قانون العقوبات قد أجازت للقاضي الحكم بها عقوبة إضافية لمدة تراوح بين سنة وعشر سنوات وفق السلطة التقديرية التي منحها المشرع للقاضي، بشرط أن لا يكون القانون قد نص في بعض الحالات على حدين مختلفين.
شارك هذا:

القسم الجزائي

اضف تعليق:

0 تعليقات: