الجرائم المخلة بواجبات الوظيفة الاختلاس

الجرائم المخلة بواجبات الوظيفة الرشوة وصرف النفوذ والتعدي على الحرية و الاختلاس والسلطة إساءة استعمال السلطة و استثمار الوظيفة والإخلال بواجبات الوظيفة
شارك هذا:


ثالثاً- الاختلاس

إن جريمة الاختلاس معروفة قديماً وحديثاً ويكاد لا يخلو أي قانون عقوبات من ملاحقتها، وتعدّ جرائم اختلاس الأموال والأشياء العامة شائعة ومشهورة ومتعددة منذ العهود القديمة.
والاختلاس لغة من خلس أي الأخذ في نهزة ومخاتلة، وبعبارة أخرى سلب الشيء بسرية وبسرعة. وقد اقتبس قانون العقوبات السوري النص المتعلق بجريمة الاختلاس من التشريع اللبناني الذي بدوره اقتبسه من المشرع الفرنسي بعد أن أهمل تصنيف هذا القانون الأخير سواء لجهة صفة الفاعل، أم لجهة أهمية قيمة الأموال لاحتساب الاختصاص، وشدد العقوبة في حال وقوع الاختلاس مرفقاً بالتزوير، وذلك وفق المادتين (349 و350) من قانون العقوبات السوري مع ملاحظة أن قانون العقوبات الاقتصادي لم يعرف جريمة الاختلاس، ويمكن أن الاستدلال على صراحة المادة في القانون السوري واللبناني من خلال المثال التالي: «تتلخص الواقعة بأن أموالاً سرية سلمت إلى مدير الشرطة من قبل شركة التابلين لقاء خدمات خاصة أداها أفراد الفرقة التي تولت حراسة منشآت تكرير النفط، فاختلسها المدير الذي سلمت إليه، وقد قضت محكمة استئناف الجزاء التي قررت أن المادة (349) اشترطت لتأليف جرم الاختلاس أن يقع الجرم على نفوذ وأشياء أخرى للدولة مسلمة للموظف قانوناً بإدارتها أو حمايتها أو صيانتها بحكم وظيفته وإلا كان الفعل من قبيل إساءة الأمانة؛ لأن المدير لم يستلم المبلغ بحسب اختصاص وظيفته بغية إدارته أو صيانته».
وقد استقر الاجتهاد القضائي على ضرورة ملاحقة جريمة اختلاس الأموال العامة ومتابعتها ومعاقبتها، استناداً إلى ما يجب أن يتحلى به الموظف العام من أهمية دوره وطبيعة عمله واستقامته في القيام بواجبه الوطني والوظيفي؛ مع ملاحظة أن الاختلاس يلحق الضرر بمصالح الدولة المالية التي ينبغي على كل الموظفين والمواطنين حمايتها وتسهيلها، وعدم التعرض والتصدي لها بأي سوء، وأيضاً إن هذا التصرف الجرمي يعدّ مخالفة صريحة وسيئة وضارّة لواجب الأمانة الذي يلتزم به كل موظف عام تجاه الجماعة، وخرقاً فاضحاً للثقة التي يضعها المواطنون في الأشخاص المكلفين بواجب رسمي.

1- صفة الفاعل:

بما أن جريمة الاختلاس أو ما يمكن تسميتها تبديد الأموال العامة مرتبطة بخزانة الدولة، وبالتالي يجب أن يكون مرتكب الجريمة موظفاً عاماً مختصاً أو من كان في حكمه؛ على اعتبار أن الفعل هو فعل الموظف دون سواه، ويعدّ هذا من قبيل الإخلال بواجبات الوظيفة. أما لو قام بهذا الفعل شخص عادي لصحت جريمة السرقة وفق تعريفها الوارد في القانون، وهي أخذ مال الغير من دون رضاه.
وقد سبق أن أتى ذكر الموظف تفصيلاً في باب الرشوة، ولكن الاجتهاد المصري عدّ أن النص ينطبق على مأموري التحصيل والمندوبين له والأمناء وعلى المودع إليهم والصيارفة المنوطين بحساب نقود أو أمتعة، ولم يأتِ بها ذكر الموظف العام، مما يستفاد منه أنه لا يشترط في من ينطبق عليه حكم هذه المادة أن يكون موظفاً بكل معنى الكلمة، وإنما يجب أن يكون قائماً بعمل ذي صفة عامة؛ وأن يكون الشيء المختلس قد سلم إليه بسبب وظيفته وتأكيداً لذلك جاء في اجتهاد لمحكمة النقض السورية اعتبار المستخدم داخلاً في مفهوم الموظف المقصود في قانون العقوبات، ويلاحق بجرم الاختلاس إذا توافرت باقي أركانه، حيث ورد«إن النص الواجب التطبيق هو حكم المادة (349) من قانون العقوبات لا المادة (656) ولا المادة (657) منه، وذلك لأن الطاعن كان مستخدماً وغير موظف بالمعنى المالي أو التقاعدي، فإن نص المادة (346) عقوبات يبقى منطبقاً عليه أحكام المادة (340) عقوبات التي ساوت بين الموظف والعامل والمستخدم في الدولة أو في إدارة عامة بالمعنى المقصود بكلمة موظف في الباب الثالث من الكتاب الثاني من العقوبات في البحث الجرائم المخلة بواجبات الوظيفة» (جنحة 2596، قرار 2679 تاريخ 24/10/1964).

2- العنصر المادي للجريمة:

يرتبط الفعل المادي في جريمة الاختلاس بنظرية الحيازة، وبالتالي يعدّ المال المنقول الداخل في حيازة الموظف حكماً في حيازة الدولة، وعلى ارتباط بالمال العام، وإن لم يكن جزءاً منه في بعض الأحيان، ولا يشترط في حيازة الموظف أن تكون حيازة مادية بل يكفي أن يكون الموظف قادراً على التصرف به أو تحريكه مادام قرار صرف المبالغ بيده.
ويمكن اعتبار أن الاختلاس ليس فعلاً مادياً محضاً وليس نية داخلية بحتة؛ بل هو عمل مركب من فعل مادي هو الظهور على الشيء بمظهر المالك تسانده نية داخلية وهي نية التملك، ولا يشترط لاعتبار الفعل الصادر من ذلك الموظف محققاً للاختلاس خروج المال الذي تصرف فيه بالفعل من حيازته؛ بل تقوم الجريمة بهذا ولو كان المال لا يزال موجوداً في المكان المعد أصلاً لحفظه. وأيضاً تقوم جريمة الاختلاس؛ ولو لم يترتب عليه ضرر فعلي للدولة أو غيرها، لأن القانون لم يتطلب أن تتحقق النتيجة الإجرامية من جراء فعل الاختلاس وإنما تتحقق بمجرد التصرف في المال تصرف الملاك. فإذا تتابعت أفعال الاختلاس فإن هذه الأفعال بمجملها تعدّ جرم اختلاس واحد، مادامت نية الاختلاس قد توافرت لدى فاعل الجريمة فليس من الضروري أن ينفذ جريمته دفعة واحدة؛ وإنما قد يتصرف بالمال المختلس على دفعات متعددة. أما إذا كانت الأفعال التي ارتكبها الفاعل ليست وليدة خطة واحدة وغرض جرمي واحد، وكان كل واحد على حدة وليد خطة مستقلة عن الأخرى ولفترات متباعدة فلا تعدّ جرماً واحداً. وهذا ما أكدته اجتهادات محكمة النقض السورية حيث ورد: «لما كان القرار المطعون فيه قد بيّن واقعة الدعوى وأدلتها على قدر ما يملكه قاضي الإحالة في حق تقدير كفاية الأدلة عملاً بأحكام المادة (148) من الأصول الجزائية إلى اتهام الطاعن وهو رئيس ديوان المحكمة بجناية اختلاس أموال المحكمة المعاقب عليها بالفقرة /ب/ في المادة (10) من قانون العقوبات الاقتصادية رقم (37) لعام 1966؛ لأن مجموع ما اختلسه من هذه الأموال قد تجاوز الألفي ليرة سورية لا ينال منه؛ لأن الأفعال المتتابعة التي نتج عنها الاختلاس إنما تشكل بمجموعها جريمة اختلاس واحدة لا جرائم متعددة كتعدد الأفعال، وذلك لأنها نتيجة تصميم واحد، مما يجعل الطعن المذكور غير وارد وجديراً بالرد» (مجلة المحامون، اجتهاد رقم 55 لعام 1969، العدد الثامن والثالث - القسم الثالث).

3- محل الاختلاس:

يكون محل الاختلاس كل مال وجد في حيازة الموظف بسبب وظيفته، المعهود إلى الموظف إما إدارته أو صيانته وإما جبايته، وهذان العنصران هما محل الاختلاس.
أ- العنصر الأول: يجب أن يكون المال منقولاً: الأصل أن المال لا يمكن أن يكون محلاً للاختلاس إلا إذا كان منقولاً، والمقصود بذلك كل شيء يمكن أن يكون محلاً لحق من الحقوق المالية قابلاً للتملك؛ لأنه هناك بعض الأمور - كالإنسان مثلاً - لا يمكن أن تكون محلاً لجريمة الاختلاس، ويجب أيضاً أن يكون هذا المال ذا قيمة؛ لأنه لا وجود لجرم الاختلاس إن تجرد من القيمة بصرف النظر عن ضآلة تلك القيمة حتى لو كانت أدبية أو اعتبارية، ويمكن أن تكون قيمة الشيء صغيرة ولكنها كبيرة بما تحويه؛ كالسند المتضمن تعهداً معيناً أو إبراءً من شيء ما، كما أن هناك بعض الأشياء التي تفقد قيمتها بتنازل أصحابها عنها؛ كالموظف الذي يُطلب منه إتلاف بعض الأشياء فيأخذها ويحتفظ بها، وفعله هذا لا يمكن عدّه جرم اختلاس. ولابد هنا من الإشارة إلى أن ضآلة قيمة المال المختلس لا تعفي من العقاب، ولكنها في الوقت ذاته تعد سبباً من أسباب التخفيف القانوني المنصوص عليها في المادة (356) من قانون العقوبات وهذا حقيقة ما أيده الاجتهاد القضائي السوري حيث جاء في قرار محكمة النقض ما يلي«إن المادة (356) عقوبات نصت على تخفيض نصف العقوبة فيما إذا كان الضرر الحاصل من الجريمة والنفع الذي توخاه المجرم زهيدين، أو إذا عوض عن الضرر تعويضاً تاماً قبل إحالة القضية إلى المحكمة ويتبين من وقائع هذه الدعوى أن المجرم سدد المبلغ المختلس أثناء التحقيق وقبل تحويل القضية إلى المحكمة. فأصبح مشمولاً بأحكام هذه المادة.
إن ظاهر النص يشير إلى أن تفاهة المال المختلس وحدها كافية للتخفيض، وكذلك التعويض وحده كافٍ لذلك، فإذا اجتمع السببان معاً فإن المحكوم عليه يستفيد من كل واحد منهما على انفراد، فتنزل العقوبة إلى نصفها لتفاهة المال ثم ينزل الباقي إلى نصفه للإعادة، وقد أخطأت المحكمة في ذهابها إلى تفاهة المال وإعادته توجب تنزيل العقوبة إلى نصفها فقط؛ مع أن كل واحد من السببين موجب بمفرده إلى هذا التنزيل»(جنحة 4681، قرار 1386 تاريخ 10/9/1962).
ومما يتوجب في هذا المال المنقول أن يكون مادياً له كيان ملموس يمكن نقله من مكان إلى آخر ولو كان لذلك النقل أثر في سلامته، أما بالنسبة إلى الحقوق الشخصية كحقوق المؤلف الأدبية فلا يتصور أن تكون محلاً لجرم الاختلاس؛ لأن هذا الجرم لا يمكن أن يقع إلا على شيء مادي، وبالتالي يمكن تصور وجود جرم الاختلاس على الوثائق التي تثبت هذه الحقوق الأدبية.
ومما يدخل تحت بند المال المنقول أيضاً العقارات بالتخصيص وأجزاء العقارات في حال أمكن فصلها ولو كان ذلك على حساب قيمتها إنقاصاً أو إتلافاً.
ب- العنصر الثاني: أن يكون المال المختلس تحت يد الموظف: يجب أن يكون المال المختلس تحت يد الموظف بسبب وظيفته، أو أوكل إليه أمر إدارته أو صيانته أو جبايته، ويخرج عن ذلك ما يدخل في حيازته بمعرض وظيفته وهذا أمر أساسي في تكوين جرم الاختلاس، فإذا لم يكن ذلك الموظف موكلاً إليه هذا المال فلا يعد أخذه للمال من قبيل الاختلاس. لم يشترط المشرع الحيازة المادية وإنما اكتفى بالتسلّم الحكمي للمال، وهذا تماماً ما استقر عليه الاجتهاد القضائي السوري، فقد قالت محكمة النقض«أنه لما كان يستفاد من تدقيق القضية أن وقائع الدعوى المتعمدة من الأدلة التي أخذ بها قاضي الإحالة تتناقض مع النتيجة التي انتهى إليها القرار المميز من حيث التطبيق القانوني؛ لأن أحكام المادتين (349 و350) من قانون العقوبات المستند إليهما في اتهام المميز تشترط لتكوين جرم الاختلاس الجنائي أن يكون الموظف اختلس ما وكل إليه أمر إدارته أو حمايته بحكم الوظيفة من نقود أو خلافها بطريق التحريف أو إتلاف الحسابات والأوراق أو غيرها من الصكوك، أو يدس كتابات غير صحيحة في الفواتير أو الدفاتر، وعلى صورة عامة بأية حيلة ترمي إلى منع اكتشاف هذا الاختلاس، ولما كان يتبين من مضمون الوقائع المشار إليها أن الاختلاس المعزو إلى المتهم المميز لم يقع على ما وكل إليه أمر صيانته أو إدارته أو حمايته كما تقدم بيانه؛ بل جرى بواسطة تنظيم إذن سفر من قبله يغادر إلى مقر وظيفته، ثم نظم أمر قبض بموجب هذا الإذن واستوفى بموجبه ثلاث مياومات احتيالاً، الأمر الذي يخرج الجرم على الوجه المبين عن وصفه الجنائي الملمح إليه في الاتهام ويدخل عند الثبوت ضمن نطاق أحكامالمادة (641) من قانون العقوبات التي تبحث عن الاحتيال بصورة مفصلة، ولما كان الخطأ في تطبيق القانون وتأويله يوجب نقض القرار المميز عملاً بالفقرة الثانية من المادة (342) في قانون أصول المحاكمات الجزائية؛ لذلك تقرر بالإجماع وفقاً للبلاغ نقض القرار المميز موضوعاً للسبب الملمح إليه فقط» (نقض سوري، جناية قرار 779  تاريخ 16/10/1958).
ويمكن أيضاً أن يكون المال عاماً حسب تعريف المادة (90) من القانون المدني، وبالتالي يدخل في نطاق المال العام أموال الجهات المؤممة كالمصارف والشركات بعد تأميمها، والتصرف بهذه الأموال من قبل المعهود إليه صيانتها أو إدارتها هو من قبيل الاختلاس.
وقد سار النهج القضائي في هذا الاتجاه حيث أورد ما يلي: «لما كانت وقائع هذه الدعوى تشير إلى أن المدعى عليه عامل في الشركة المؤممة وقائم بوظيفة أمين المستودع فيها ومكلف ببيع الأقمشة، وقد ارتكب جريمة اختلاس الأموال مع التزوير وبلغت الأضرار أكثر من ألفي ليرة.
وانتهى قاضي التحقيق إلى اعتبار جرمه من قبيل الجنحة المنطبقة على المادة (349) من قانون العقوبات. وانتهى القاضي الابتدائي إلى اعتبار الجرم من نوع الجناية، وقد اكتسب هذان القراران الدرجة القطعية وتوقف سير العدالة ووجب تعيين المرجع وفقاً للمادة (408) وما بعدها من الأصول الجزائية.
ولما كانت الشركات المؤممة تعتبر كالدولة في معرض تطبيق قانون العقوبات الاقتصادية وفقاً للمادة الأولى منه، وكان اختلاس أموالها يعتبر من نوع الجناية وفقاً للمادة العاشرة منه.
كما أن العامل في الشركة المؤممة يعدّ موظفاً وفقاً للمادة (340) من قانون العقوبات، واختلاس الأموال التي وكل إليه أمر إدارتها مقترناً بالتزوير من نوع الجناية وفقاً للمادة (350) منه.
وكان ما جاء في قرار قاضي التحقيق من اعتبار الجرم من نوع الجنحة مخالفاً لقانون العقوبات وهي تبحث في جرم جنائي مما يجعل قراره جديراً بالنقض» (جنحة 3379 قرار 3902 تاريخ 31/12/1969).
ويعد من قبيل المال الممكن وقوع جرم الاختلاس عليه المال الخاص الموضوع تحت يد الإدارة أو جهة عامة وكانت مهمة الموظف حراستها، كالمصادرات الجمركية قبل البت بموضوعها (نقض سوري، جناية أساس 741 قرار 666 تاريخ 23/7/1967).

4- القصد الجرمي:

تعدّ جريمة الاختلاس من الجرائم القصدية لا بل المتعمدة أحياناً، ولا بد من توافر القصد الجرمي بنوعيه: العام والخاص.
أ- القصد العام: يتكون القصد العام من العلم والإرادة، وبالتالي يتوجب على مرتكب هذه الجريمة علمه بالظروف والأركان من كونه موظفاً، وأن يضع يده على المال المسلم إليه بسبب وظيفته بغية إدارته أو حمايته أو صيانته أو جبايته؛ مع اتجاه إرادته إلى التصرف بهذا المال. ولا يتصور وفق ما ورد وقوع الاختلاس بالخطأ مهما كان جسيماً، وإن انتفاء أي عنصر من العنصرين السابق ذكرهما؛ أي العلم أو الإرادة، ولو انتفى العلم بسبب غلط في القانون أو الواقع من دون نسيان، فلا يعفى الفاعل من العقاب إن ثبت جهله بنصوص مواد القانون؛ لأنه لا يعتد بالجهل بالقانون، ولكن إن انتفاء الإرادة لا تنفي الجرم وإنما تعفي من المسؤولية الجزائية كما هو حال المعتوه والمجنون.
ب- القصد الخاص: ويتوافر هذا القصد من انتقال الحيازة الناقصة إلى حيازة كاملة على اعتبار أن النية الجرمية المكونة لهذا الفعل تتم في لحظة واحدة، وبالتالي لا يمكن تصور قيام الشروع في مثل هذا الجرم، أي إن جرم الاختلاس إما أن يقع بشكل تام وإما ألا يقع مطلقاً. أما النية الجرمية في جريمة الاختلاس فتعد عنصراً رئيسياً من عناصر تكوينها فتتم بوجودها وتنتفي بانتفائها، ولا أثر في توافر نية الجاني رد مقابل ما أضاعه من المال بعد التصرف فيه، وإن كان الرد في حد ذاته سبباً مخففاً قانونياً، وقد ورد العديد من الاجتهادات القضائية المؤيدة لما سبق ذكره، فقد جاء في أحد القرارات القضائية الصادرة عن محكمة النقض السورية ما يلي«لما كان فعل الطاعن لا يعدو تأخير (تأخيراً) في تسديد كامل المبالغ التي جباها عن أجور الجرار الزراعي العائد للجمعية، وقد برر هذا التأخير بأن مبالغ سرقت منه فلم يتمكن من التسديد وعندما طلبت منه قام بتداركها وتسديدها.
ولما كان مجرد تأخير الموظف أو الجابي في تسديد بعض المبالغ التي جباها لا يعني حتماً أنه كان ينوي اختلاسها خاصة إذا كان قد سددها بمجرد الطلب إليه التسديد إذ لا بد من قيام أدلة كافية على قصد الاختلاس، ويفسر الشك لمصلحة المدعى عليه.
ولما كان القرار المطعون فيه لم يقم قضاؤه على أي دليل توفر في التحقيق؛ إذ إن قاضي التحقيق ومن بعده قاضي الإحالة لم يجريا أي تحقيق ولم يجمعا أي دليل، وإنما أقاما نية الطاعن وتسديده المبلغ المتبقي في ذمته بمجرد الطلب إليه وعدم وجود نظام يلزمه بالتسديد في أوقات معينة محددة، ولم يلحظ أن الطاعن لم يقبض أجوره منذ تاريخ تعيينه كما جاء في تقرير التفتيش، كما ولم يلحظ أن الشك يفسر لمصلحة المدعى عليه فينال منه الطعن مما يستوجب النقض» (نقض سوري، جناية 167 قرار 71 تاريخ 28/1/1976).

5- العقوبـة:

يمكننا تقسيم العقوبة حسب وصفها إلى قسمين:
أ- الاختلاس الجنحي الوصف: القاعدة العامة أن جريمة اختلاس الأموال هي من نوع الجنحة خلافاً لما هي عليه غالبية أفعال الإخلال بواجبات الوظيفة؛ إذ قضى المشرع على الموظف المختلس بالحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات، إضافة إلى الغرامة التي أقلها قيمة الردود (المادة 349 من قانون العقوبات).
ب- الاختلاس الجنائي الوصف: عمد المشرع السوري إلى تشديد العقوبة حيث جعلها الأشغال الشاقة المؤقتة مع غرامة أقلها قيمة الردود في حالة ارتباط فعل الاختلاس بأي حيلة ترمي إلى منع اكتشافه، كالتزوير الحاصل في الدفاتر، أو الإتلاف الواقع على الحسابات والأوراق وغيرها من الصكوك… إلخ.
والجدير بالذكر أن المشرع السوري أورد في المادة ( 35) سببين من الأسباب المخففة للعقوبة حتى النصف سواء أكانت جنحة أم جناية وهما:
(1)- إذا كان الضرر الحاصل أو النفع الموجود من الفعل زهيدين يصلان إلى حد تفاهة المال المختلس، وهو أمر يعود تقديره إلى قاضي الموضوع.
(2)- إذا قام المختلس بتعويض الضرر الحاصل نتيجة اختلاسه، إما برد المال المختلس، وإما برد قيمته إذا كان من غير النقود، وذلك بشرط أن يتما قبل إحالة القضية إلى المحكمة أو قبل صدور أي حكم في الدعوى وبرضاء الفاعل وفق ما ورد في أحد الاجتهادات القضائية لمحكمة النقض السورية: «لما كانت المادة (356) من قانون العقوبات قد نصت على أن العقوبة تخفض إلى نصفها إذا عوض عن الضرر تعويضاً تاماً، ومؤدى ذلك أن الإعادة التي تجعل الفاعل مستفيداً من هذا التخفيف هي التي تمت برضائه لا بالمصادرة الجارية رغماً عنه، لاسيما وأن الفاعلين في هذه الجريمة قد أخفوا المال المختلس وحرصوا على استهلاكه لولا ملاحقة رجال الشرطة ومصادرته من البيت نتيجة التحري والبحث عنه وقد تم ذلك بدون رضاء المجرم ورغماً عن إرادته.
وإن ما جاء في هذه المادة نوع من التدبير الحكيم أخد به الشارع ليفسح للمختلس مجالاً للتخفيف عنه، ويحمله على إعادة ما اختلسه، وليبرهن عن ندمه وحسن نيته، ولتستفيد الخزينة من استرداد أموالها المختلسة» (نقض سوري جناية 95، قرار 49 تاريخ 31/1/1965).
وقد ورد اجتهاد آخر يؤكد ما ذكر حول موضوع التخفيف الوارد في السببين معاً المتعلق بتفاهة المال المختلس مع رده حيث جاء ما نصه: «إن المادة (356) عقوبات نصت على تخفيض نصف العقوبة فيما إذا كان الضرر الحاصل من الجريمة والنفع الذي توخاه المجرم زهيدين، أو إذا عوض عن الضرر تعويضاً تاماً قبل إحالة القضية على المحكمة، ويتبين من وقائع هذه الدعوى أن المجرم سدد المبلغ المختلس أثناء التحقيق وقبل تحويل القضية إلى المحكمة فأصبح مشمولاً بأحكام هذه المادة. إن ظاهر النص يشير إلى تفاهة المال المختلس وحدها كافية للتخفيض وكذلك التعويض وحده كاف لذلك، فإذا اجتمع السببان معاً فإن المحكوم عليه يستفيد من كل واحد منهما على انفراد فتنزل العقوبة إلى نصفها لتفاهة المال ثم ينزل الباقي إلى نصفه للإعادة، وقد أخطأت المحكمة في ذهابها إلى تفاهة المال وإعادته توجب تنزيل العقوبة إلى نصفها فقط؛ مع أن كل واحد من السببين موجب بمفرده إلى هذا التنزيل» (نقض سوري، جناية 4681، قرار 1386 تاريخ 10/9/1962).
شارك هذا:

القسم الجزائي

اضف تعليق:

0 تعليقات: