ثانياً- صرف النفوذ
إن جريمة صرف النفوذ لم تكن معروفة في الأعراف الجزائية القديمة، وأول من أبرز الخطوط الأساسية بصورة صريحة هو القانون الخاص والمتعلق بهذه الجريمة الصادر في فرنسا بتاريخ 4/7/1889 حيث جرت ملاحقة المتورطين في صفقات مشبوهة في ظل فوضى سياسية واجتماعية وانتفاضة جماهيرية. أما بالنسبة إلى التشريعات العربية فقد خلا غالبها من هذه الجريمة عدا القانون المصري والمغربي واللبناني والسوري حيث وردت في قانون العقوبات السوري في المادة (347 و348)، ويمكن تقسيم دراسة هذه الجريمة إلى أربع نقاط أساسية تتناول فاعل الجريمة، والنفوذ المدعى بارتكابه، والعنصر المادي، والعنصر المعنوي لجريمة صرف النفوذ.
1- الفاعـل:
لم يشترط المشرع وجود صفة خاصة في مرتكب هذه الجريمة، وإنما وضعت مواده لتنال الأشخاص كافة من دون الإشارة إلى مركزهم أو وظيفتهم، وبالتالي استبعد القانون كون الفاعل موظفاً عاماً، وإنما اكتفى بقيام أي شخص باستعمال نفوذه الشخصي على الأفراد الخاضعين لتأثيره لتحقيق مبتغاه ومراده، إلا أن بعض الفقهاء اشترط في فاعل هذه الجريمة أن يكون موظفاً عاماً أو على الأقل عضو مجلس انتخابي أو عضو مجلس نيابي، وخالف فقهاء آخرون هذا الرأي فحدث اضطراب في الاجتهاد والفقه، مما حــــــــــــــــدا بعض المفكرين القانونيين على تقريب وجهات النظر باتخاذ موقـــــــــــــف معتدل معتبراً الصفة الرسمية في الفاعل ظرفاً مشدداً للعقاب كما جـــــــــــــــــاء في المادة (348) من قانون العقوبات السوري لجهة معاقبة المحامي بحجة الحصول على عطف القاضي أو الخبير أو الحكم.
2- ادعاء النفوذ:
يعد هذا الركن من الأركان الأساسية في جريمة صرف النفوذ ولا يتحقق بمجرد تسلم الجاني هدية بغية مساعدة صاحب المصلحة تقديم النصح والإرشاد؛ مع ملاحظة أنه لا أهمية لمصدر النفوذ المتمتع به فاعل الجريمة، فقد يكون سياسياً أو اجتماعياً أو وظيفياً أو حتى عن طريق المعرفة أو القرابة بينه وبين الموظف المطلوب منه الخدمة، وذلك بغية حمله على قضاء المصلحة الموجودة. ولم يأخذ القانون بعين الاعتبار طريقة صرف الجاني لنفوذه، فقد تكون مباشرة، أو عن طريق الوساطة، كالضغط الممارس على رئيس الموظف أو زوجته ليستخدما نفوذهما على الشخص المطلوب منه الخدمة المبتغاة، ولكن بشرط أن يكون ذلك النفوذ موجه نحو جهاز من أجهزة السلطة العامة، أو إحدى إدارات الدولة، أو مؤسساتها من اجتماعية أو اقتصادية أو ذات نفع عام؛ لأن استخدام النفوذ لدى جهة خاصة غير حكومية، كإحدى المؤسسات الخاصة أو الشركات بغية الحصول على خدمة أو امتياز أو أي مزية أخرى لصاحب المكافأة لا يشكل جرم صرف النفوذ. مع العلم أن النص القانوني لم يميّز بين تمكين صاحب الهدية من مصلحته أو محاولة ذلك، ولو لم تنجح هذه المحاولة، وتكون هذه الجريمة متحققة سواء ضمن الجاني النتيجة عند طلبه أو تسلمه للمكافأة، أو تعهد ببذل المساعي من أجل الحصول عليها، ولم يوجب القانون أن يقوم الفاعل باستعمال نفوذه فعلياً؛ وإنما اكتفى بتعهد الفاعل أمام صاحب الحاجة بالقيام باستعماله بغية الحصول على النتيجة، أو حتى محاولة الحصول عليها ولو لم يكن صادقاً في كلامه.
وقد استقر القانون والفقه والاجتهاد على أن ممارسة النفوذ هي شرط متلازم مع الادعاء بغض النظر عن مدى فاعليته، وفي بعض الأحيان قد يختلق الجاني القرائن المتوافقة مع وسائل التدليس، كقيامه بأعمال إيجابية أمام صاحب المصلحة تجعله يقع ضحية هذه الأعمال، ولم تكن تلك الوسائل أو القرائن ما يغرر الشخص العادي الذي يفترض فيه الحذر وعدم التسليم بهذه التصرفات أو حتى الاقتناع بها.
3- العنصر المادي:
إن الأفعال المادية في جريمة صرف النفوذ تأخذ الصور والعناصر والوسائل نفسها التي يتشكل منها العنصر المادي لجريمة الرشوة، أو بمعنى آخر أن الهدية أو العطية هي نفسها المعتمدة في الجريمتين دونما حاجة إلى تعدادها أو تكرارها من جديد. وعدّ بعض الفقهاء أن النصوص القانونية المتعلقة بصرف النفوذ واجبة التطبيق على المؤسسات الرسمية الأجنبية بالنسبة إلى الأحوال المرتكبة في الإقليم الوطني المحلي لورود النص على إطلاقه من دون إلحاق عبارة الدولة أو السلطات العامة بكلمة الوطنية.
4- العنصر المعنوي:
تعد جريمة صرف النفوذ من الجرائم المقصودة، يتخذ فيها الركن المعنوي صورة القصد الجرمي الذي يتحقق بانصراف إرادة فاعل الجريمة إلى طلب المكافأة أو العطية مقابل استعمال نفوذه لدى الجهات المختصة تلبية لحاجة صاحب المصلحة، وبالتالي يقتصر العنصر المعنوي لمستعمل النفوذ على القصد العام؛ كقيامه بالتعهد لصاحب المصلحة باستعمال نفوذه ولو لم يكن في قرارة نفسه يقصد القيام بذلك، أما لو تسلّم الجاني هدية أو عطية لقاء خدمة غير مضمونة، ولم يقم الفاعل بالتعهد لصاحب الهدية أو وعده في ممارسة سلطاته على سواه؛ فلا تقوم الجريمة في هذه الحالة.
أما العنصر المعنوي لصاحب المصلحة فيكون بمجرد تقديم المكافأة لقاء الاستفادة من نفوذ الجاني سواء تم القبول من قبل هذا الأخير أم لم يتم.
والجدير بالذكر أن المشرع لم يُعر أي أهمية للقصد الخاص من وراء هذا الفعل بل اكتفى بالقصد العام المبني على الإرادة والعلم؛ من دون حاجة إلى التحري عن رغبة صاحب المصلحة من وراء هذا العمل أو حتى الدافع الذي حمله على ذلك الفعل ولو كان ذلك الدافع شريفاً.
بقي أخيراً ذكر أن العقوبة المفروضة على هذه الجريمة وفق أحكام المادة (347) من قانون العقوبات هي الحبس من شهرين إلى سنتين وغرامة أقلها ضعفا قيمة ما أخذ أو قبل به، إلا أن المشرع عاد وتشدد في هذه الجريمة إذا قام بارتكابها محامي بحسب ما ورد في أحكام المادة (348) من قانون العقوبات، فأصبحت الحبس من سنة إلى ثلاث سنوات، ومنعه من ممارسة مهنته مدى الحياة لما لهذا الفعل من خطورة.
ولابد في ختام البحث في جريمة صرف النفوذ من توضيح أوجه الاتفاق والاختلاف بينها وبين جريمة الرشوة، إذ تُعدّ هاتان الجريمتان من أكثر الجرائم تشابهاً؛ لأن العناصر الأساسية هي ذاتها في كلتيهما، وهذا ما يفسر خلو الكثير من التشريعات من ذكر جريمة صرف النفوذ؛ إذ تناولتها في مجمل ذكرها لجريمة الرشوة.
أوجه الالتقاء:
أ)- يلتقيان بأن كلاً منهما هو بحكم العقد الجرمي الناشئ من اندماج الإرادتين في الاتفاق المتبادل الحاصل على أساس التكافؤ في المنفعة بين العطية من جهة وبين الخدمة المطلوبة من جهة ثانية.
ب)- إن المساهمة الجنائية واردة تماماً وطبق الأصل في الجريمتين معاً سواء من حيث الفاعل الأصلي والشريك والمتدخل.
ج)- إن المحاولة تأخذ الطريق ذاته في الوجهتين بالنسبة إلى قواعد التجريم وشروطه واستحالة الفعل واعتبار هذه المحاولة كجريمة قائمة أحياناً.
أوجه الافتراق:
أ)- إن أكثر فرق واضح بين الجريمتين في صفة كل من الفاعلين؛ لأن الرشوة هي جريمة موظف بخلاف الحال في جريمة صرف النفوذ التي لا تعير صفة الوظيفة أي أهمية.
ب)- إن مستغل النفوذ لا يقوم بقضاء حاجة صاحب المصلحة مباشرة لأنها خارجة عن اختصاصه، في حين تفترض الرشوة أن تكون الخدمة المطلوبة من الموظف مباشرة بمناسبة ممارسته العمل.
ج)- هناك فارق جوهري يتجلى في العقوبة الموقعة على الشريكين في كل من الجريمتين؛ إذ إن الفعل بالنسبة إلى صاحب النفوذ يعدّ جنحوي الوصف والعقوبة بخلاف حال الرشوة إذ إنها من نوع الجناية، ويشذ عن ذلك فقط كون العمل المطلوب من قبيل الجنحة.
اضف تعليق:
0 تعليقات: